نبات هلامي.. أول مستكشف للمريخ

 
 
 
 
لو قلت لك: إن قنديل البحر سيكون أول مستكشف للمريخ، وإنه سيقوم بدراسة بيئته وظروفه المناخية عن قرب وسيقوم بإرسال رسائل مشفرة إلى غرف التحكم الأرضية، وسيفهم العلماء هذه الرسائل الواردة من على سطح المريخ بكل سهولة ويسر.. هل تصدقني؟ أم ستقول: إن هذا الكلام نوع من الدجل أو التخاريف العلمية؟!!
لا تندهش عزيزى القارئ؛ فأيامنا حُبلى بكل جديد وغريب وعجيب وبين الحين والآخر يصل لأسماعنا أنباء قفزات تقنية حديثة لم يسبق لها مثيل، وحسب تصريح لوكالة الفضاء والطيران الأمريكية "ناسا" فقد أصبح في حكم المؤكد أن المستكشف الأول للمريخ سيكون نوعا جديدا عبارة عن خليط من الكائنات الحية الهجينة الناتجة عن المزاوجة الجينية بين عدة كائنات حية، وأن المسألة لم تعد ضربًا من الخيال العلمي أو التمني، بل هي حقيقة يتم تفعيلها الآن.
والمرشح الأول لأداء هذه المهمة الصعبة هو كائن جديد من مجموعة النباتات الهلامية أو "جيليبلانتس" Jellyplants صُمّمَ خصيصا لارتياد الفضاء الخارجي والعمل كرائد فضاء وكمختبر حي في نفس الوقت لاستكشاف بيئة المريخ، ونتج من المزاوجة الجينية بين نبات الرشاد "أرابيدوبسيس ثاليانا" Arabidopsis thaliana، الذي ينتمي إلى مجموعة الصليبيات، وسمكة قنديل البحر Jelly Fish من فصيلة قنديل البحر المشع "أيكوري فيكتوريا" Aequorea victoria.
وقام فريق كبير من المهندسين وعلماء الفضاء وعلماء التقنيات الحيوية والهندسة الوراثية بإعداد خطة مهام كاملة لهذه الرحلة المزمعة، وتعتمد الخطة على نقل هذه الكائنات الغريبة إلى المريخ.
وينكبّ البروفيسور "روب فرل" الأستاذ في جامعة "فلوريدا" الأمريكية حاليا على إجراء التعديلات الوراثية اللازمة لهندسة نباتات "الأرابيدوبسيس" وراثيا لكي تستكشف وتحلل بكل سهولة الظروف البيئية المريخية؛ ومن أجل ذلك يقوم "فرل" الآن بتدريبها وترويضها وإعدادها لريادة الفضاء عن طريق إضافة بعض الجينات الخاصة إليها.
مهمة مستحيلة على الكوكب الأحمر
صُمم الجيل الأول من هذه النباتات بعناية فائقة بحيث تتوهج في الظلام وتبعث بضوء أخضر ناعم في حالة تعرضها لبعض المؤثرات الخارجية، وستقوم كاميرا دقيقة في المختبر الفضائي برصد هذه الهالات الناعمة الخضراء، وستقوم بعد ذلك بنقل هذا الوهج على هيئة رسالات شفرية فورية محددة لتخبر الباحثين على الأرض بطبيعة المشاكل والأخطار التي تهدد النباتات وتعيق نموها على سطح المريخ مثل نقص الأكسجين أو ندرة المياه أو تدني مستوى العناصر الغذائية في التربة.
وحسب تصريح "ناسا" فمن المقرر أن تستوطن هذه الكائنات الحية المعدّلة وراثيا المريخ لأول مرة في عام 2007م، ولكن العلماء قد بدءوا في التجهيز لهذه المهمة الفريدة منذ نهايات القرن الماضي، وظهرت النماذج الأولية لهؤلاء الرواد الأوائل المتوهجين في عام 1999م، عندما أرسل "فرل" الجيل الأول من هذه النباتات المحوّرة وراثيا للفضاء على متن مكوك الفضاء، وتوهجت جذور نباتات "الأرابيدوبسيس" في بعض المناطق تأثرا بانخفاض نسبة الأوكسجين.
وتمر الآن هذه النماذج الحية الأولية بالعديد من مراحل التطوير والتهيئة النهائية لتستطيع العيش تحت ظروف المريخ القاسية. ومن المعروف أن النباتات تشابه البشر والحيوانات من حيث القدرة على التكيف تحت مختلف الظروف الجوية والبيئات الحياتية، بالرغم من أن كوكب المريخ يعتبر من أكثر الكواكب شبهًا بالأرض، إلا أنه إذا هبطت النباتات على سطح المريخ الذي تظهر عليه الجبال والأودية والبراكين والفوالق الزلزالية ومجاري الأنهار الجافة، وتغطي أقطابه الثلوج، فستتعرض إلى تشكيلة متنوعة من الظروف القاسية المهلكة التي يندر أن تنشأ تحتها حياة طبيعية، مثل وجود درجات حرارة متطرفة ومتباينة؛ لأن المريخ يستقبل أقل من نصف ما تستقبله الأرض من الإشعاع الشمسي؛ لذلك فهو أبرد كثيرًا من الأرض، ففي الصيف لا تتعدى درجة حرارته درجة الصفر المئوي، وفي الشتاء تصل إلى درجة 180 درجة فهرنهيت تحت الصفر، وليس هناك مطر حيث تكثّف كل بخار الماء الموجود بالغلاف الجوي للمريخ نتيجة للبرودة الشديدة.
والضغط الجوي للمريخ منخفض للغاية؛ حيث يقل الضغط، وكثافة الغلاف الجوي للمريخ مائة مرة عن ضغط وكثافة الغلاف الجوي للأرض، ويتغير بمقدار 30% في أثناء فصل الصيف والشتاء.
هذا بالإضافة لطبيعة التربة القاسية؛ نظرًا لأن قشرة سطح المريخ سميكة وصلبة، والثلوج الموجودة على أقطابه هي عبارة عن ثاني أكسيد الكربون المتجمد (الثلج الجاف). والغلاف الجوي للمريخ يتكون من: 95% من ثاني أكسيد الكربون، و5% من النيتروجين والأرجون وبعض الغازات الأخرى؛ ولهذا إذا وصلت النباتات إلى المريخ فستعاني من عدم توافر الأوكسجين، وستتعرض لجرعات عالية من الأشعة الكونية المهلكة والأشعة فوق البنفسجية، بالإضافة لكل ما سبق من صعوبات.
وتم اختيار نبات "الأرابيدوبسيس" عضو العائلة الصليبية لهذه المهمة الصعبة؛ لأنه يتميز بثلاث خصائص يندر توافرها في نبات آخر وهي:
1- الارتفاع الأقصى للنبات يصل إلى 6 بوصات فقط؛ ولذا فهو يستطيع أن ينمو داخل بيت زجاجي صغير للغاية بكل حرية.
2- دورة حياه النبات قصيرة تبلغ ستة أسابيع فقط، ولا يتأثر تركيبه الجيني بتعاقب أجياله، ومن الممكن ملاحظة مراحل النمو المختلفة وتأثرها بالظروف البيئية الخارجية في هذه الفترة القصيرة.
3- وهذا النبات له تركيب جيني سهل وبسيط وأصغر 25 مرة من التركيب الجيني عند الإنسان، ويعد أول نبات يتم التعرف على مورثاته كاملة، وأعلن العلماء في 14 ديسمبر 2000 عن فك الخريطة الجينية (الجينوم) لهذا النبات.
4- تشارك جينات هذا النبات جميع الكائنات الحية الموجودة على كوكب الأرض.
ومن هنا يسهل التعامل مع هذا النبات الصغير وهندسته وراثيا وتعديله بالكيفية التي يراها العلماء وإنتاجه بصور وأشكال مختلفة، بحيث يصدر كل نوع منه رسالة شفرية محددة تبعث برسالة واضحة للباحثين المتابعين للنبات، ويمكن التعرف منها على طبيعة نموه والمشاكل التي تواجهه، كما يوفر كل ذلك الجهد المطلوب لتحديد أي تغيرات وراثية تحدث لهذا النبات على سطح المريخ.
قنديل البحر الساحر!
ماكيت لأرض المريخ عليها البيوت الزجاجية
ويستعمل علماء الهندسة الوراثية علوم الوراثة والكيمياء الحيوية لتصميم نباتات معينة تصلح لريادة الفضاء ولسبر أغواره؛ حيث تعد بمهارة شديدة للعمل كمختبرات حية. والجينات المنقولة لنباتات "الأرابيدوبسيس" المهندسة وراثيا تشتمل على جينات تشعر بالإجهاد البيئي وعلى جينات أخرى من مجموعة الجينات المراسلة Reporter Genes وتتفاعل الجينات بطرق علمية محسوبة بدقة لإحداث وهج فسفوري أخضر اللون عند تعرض النباتات للمشاكل.
وأما الجين المعبر أو المراسل الساحر فقد تم نقله من قنديل البحر المتوهج "إيكوري فيكتوريا" الذي يتواجد بكثرة على شواطئ المحيط الهادي بأمريكا الشمالية. ويعيش هذا القنديل حوالي ستة أشهر فقط، ويتوهج القنديل عند تعرضه للخطر، ويظهر وهجا أزرق اللون نتيجة لوجود البروتين الأخضر الفسفوري المعروف بالاختصار "جي إف بي"، ويظهر هذا البروتين المشع باللون الأخضر للعين البشرية بالرغم من ظهور الوهج باللون الأزرق في قنديل البحر نفسه.
ولهذا الجين المعزول من قنديل البحر مجالات تطبيقية عديدة في المجالات البحثية والتطبيقية والطبية والصناعية، ومن الممكن إيلاجه بأي نوع من الكائنات الحية ليعمل بنفس الكفاءة، ولقد تعددت الاستخدامات التقنية لهذا الجين الساحر فأنتج العلماء نباتات تتوهج في الظلام تعمل كأجراس إنذار تنبئ المزارعين بالأخطار المحيطة بها أو تطلب السقاية. كما أنتج العلماء أرانب وفئران وقردة تتوهج بعض خلاياها في الظلام لتساعد الجراحين في تتبع أحد الأورام القاتلة على سبيل المثال.
غرف الإنعاش المريخية!
ويعتقد الخبراء أن تعريض النباتات لظروف الحياة القاسية على المريخ ونجاحها في تخطي هذه العقبات الصعبة سوف يمهد الطريق لحياة البشر هناك. وإذا نجح هؤلاء المستكشفون المتوهجون المستقبليون للمريخ في مهمتهم الصعبة فسيتم توفير الأوكسجين والغذاء وهي مواد نادرة على سطح المريخ وغالية الثمن جدا إذا تم نقلها من الأرض إلى المريخ بطريقة منتظمة. ويعتمد العلماء على قدرة الكائنات الحية في التكيف تحت أقصى الظروف وعلى الطبيعية المتجددة لهذه الكائنات وقدرتها على تزويد الإنسان بكل المواد الضرورية بشكل رخيص.
وتعتمد أفكار العلماء المستقبلية في هذا الصدد على بناء أجهزة أو "غرف إنعاش" لإعادة التجدد الحيوي البيئي تتميز بالاكتفاء الذاتي وتدعيم الحياة Bioregenerative Life Support Systems. وتحاكي هذه الأجهزة النظام البيئي المتكامل الذي يتعايش فيه جميع الكائنات الحية (البشر والحيوانات والنباتات والجراثيم) على الأرض ويعملون سويا في نظام بيئي متوازن قابل للتجديد.
وهذه الأجهزة ستتضمن البشر بجانب النباتات والجراثيم على المريخ؛ فمن المعروف أن الإنسان يستهلك الأوكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون وتأخذ النباتات ثاني أكسيد الكربون وتنتج الهواء النقي الصالح للتنفس مرة أخرى، والنفايات البشرية (بعد معالجتها بالجراثيم المناسبة في المفاعلات الحيوية) تستطيع أن تمد النباتات بالأسمدة والمواد المغذية وستوفر النباتات الغذاء للناس بعد ذلك وتستمر هذه الدورة على نفس المنوال.
مهمة فلسفية!
عهدت "ناسا" لشركة "ديناماك" في مركز "كندي" للفضاء بتصميم أجهزة الإنعاش المريخية على هيئة بيوت زجاجية مجهزة لزراعة نباتات المحاصيل على تربة من المريخ. وسيقوم مركز بحوث "أميس ناسا" بإرسال بذور النباتات المهندسة وراثيا إلى المريخ على متن مركبة فضائية صغيرة تسمى "المريخ سكاوت" التي ستقوم بجمع جزء صغير من تربة المريخ لإجراء تجربة علمية قياسية، وستقوم بزراعة بذور نباتات "الأرابيدوبسيس" وتنميتها داخل بيت زجاجي صغير محمول على متنها لاختبار هذه النظرية.
والهدف الرئيسي للمهمة الفضائية المرتقبة في عام 2007م محدد وحاسم للغاية، ويهدف إلى تحديد صلاحية البيئة على سطح المريخ لزراعة النباتات، أما الهدف النهائي لها فهو زراعة النباتات تحت الظروف المناخية للمريخ داخل البيوت الزجاجية، وسيتم نقل الضوء عند الحاجة عن طريق الألياف الضوئية، كما سيتم إمدادها بالأوكسجين الإضافي وستعتمد في الشرب على رطوبة الجو المريخي أو على الماء المستخرج منه إن وجد.
ويدعي بعض العلماء أن لهذه المهمة غرضا فلسفيا أيضا، ويقول "كرس مكاي" الباحث الرئيسي لمهمة "سكاوت" المقترحة: "ستكون هذه الرحلة خطوة رمزية لانتقال صورة من صور الحياة على الأرض، لتنمو وتترعرع في مكان آخر في الفضاء". وبالطبع إذا نمت النباتات المهندسة وراثيا على سطح المريخ وتحت ظروفه القاسية فسيكون هذا الإنجاز التاريخي للبشرية هو اللبنة الأولى لاستعمار الكوكب الأحمر وغزو الفضاء الفسيح في المستقبل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف يمكن الحصول على DOI ? How to get DOI of your article ???

"كيس واحد من (Doritos) فيه من المواد الحافظة ما يكفي لتحنيط كلب صغير".

عروسان يفاجئان الضيوف بدعوة 30 حيوانًا إلى زفافهما: ثعلب وثعبان وعقرب وبومة وراكون